في ذكرى ميلاده: كاريزما ياسر عرفات
بقلم: بكر أبو بكر[1]
بمناسبة ذكرى ميلاد الخالد فينا ياسر عرفات (4/8/1929م) أكتب هذا المقال. مما تعلمناه أن الجاذبية والتأثير والسحر قد يكون لفظيًا، وقد يكون غير لفظيّ ومن أساليب التأثير في الناس الكثير مما كتبنا فيه، وكنا قد أشرنا لعدد من النقاط الهامة التي من يمكننا أن نكتسب الكاريزما والجاذبية والتأثير في الآخرين، ومنها مالخصناه في النقاط التالية:
1) المصداقيةُ تُصنع، والاحترام يُكتسب والثقة تبنى، والاخلاق لا تتجزأ
2) الكلمة كالرصاصة فلا تطلقها إلا لتصيب الهدف.
3) ما ترفضه القلوب لا يقبله العقل بسهولة.
4) الابتسامة والايماءة والمصافحة أقوى من الكلام.
5) لا تقل الا حقاً ، فالكلام المرسل حجة عليك.
6) اصنع مناخك: بتخير المكان والزمان والموقف والمضمون، والتكرار الحميد.
7) أحسن الانصات
اقرأ بلا انقطاع، وتعلم بإقبال
9) دع ما لا تعرف، وتعلمه لاحقا، وانقل الحوار لمساحة تأثيرك.
10) ايمانك بما تقول، وحبّك لما تفعل حافز وطاقة تنتقل منك للآخرين حتما.
وإن كان لياسر عرفات قاموسه الخاص بالجاذبية والسحر، فإن في شخصيته الكثيرُ الذي يتقاطع مع ما افترضناه عوامل تأثيرية فيما سبق من بعض النقاط العشر، ونقاط أخرى تميزه.
عند النظر للكاريزما والتأثير عند ياسر عرفات، وقد يصح قول هذا الأمر في إطار الثورة الفلسطينية عند صلاح خلف أو عند خالد الحسن أو جورج حبش...الخ، بأبعاد قد تقترب في قضايا وتختلف في أخرى، ولكن دعني أحصر الأمر هنا في نموذج ياسر عرفات.
ياسر عرفات عبر تاريخه الطويل صنع شخصية إشكالية ما بين نظرة أعدائه الكثُر المتحفزين للغدر والانقلاب عليه، وبين أصدقائه الأكثر، لماذا هذه الكثرة قبل أن ننطلق لمزايا كاريزميته؟
تجد الجواب في حقيقة الإيمان القوي الذي بعث فيه كامل الهمّة والنشاط، وعقلية العمل الدؤوب لقضيته، فجعلها أي قضيته هي الميزان وهي السيف القاطع من جهة، وهي وشخصه كأنهما شيئًا واحدًا لذلك استخدم الميزان والسيف حين يختلف الآخرون مع فلسطين، واستخدم بتلات الورد حين يتفق الآخرون مع فلسطين، ولذلك كان يسمح لأي كان أن يعظَه وينصحه ويرشده ولكن لم يكن ليسمح له أن يتقدمه أو أن يدفعه الى الخلف، لأن الخلف لايكون أبدًا له، أي لفلسطين.
أصبح كل عمل أو كل إطار يتزعمه ياسر عرفات ينطبق عليه ذات المعادلة من الرفض المطلق لأي تجاوز أو إهمال أو إبعاد، والرفض المطلق لأي استهتار أو التفاف حوله.
ومن هنا استطاع أن يكسب كل المحبين للحرية والنضال والكفاح عبر العالم دون استثناء كأصدقاء وداعمين، كما استطاع أن يكسب العديد من الحاقدين والحاسدين الذين عندما وجدوا أنفسهم على الهامش أخذوا يلعبون ضده، أي ضد فلسطين في الخفاء حينًا وفي العلن أحيانًا أخرى.
وقفت أنظمة الخزي والخجل والخوف معه أحيانًأ اتقاءً لما تراه شرًا منه على عروشها!
ووقفت أنظمة الخداع والمؤامرات معه حين ظنت أنها احتوته! ثم حاربته حين رأته يخرج عن الطوق ويتمرد.
لذا فلا مفاجأة أن تجد بعض هذه الأنظمة -من الطرفين حيث الخزي أو الخداع، والرجعي أو التقدمي- الفرصة السانحة بعد موته الحيّ لإطلاق العنان لكل من كانوا ليسوا ذوي صلة بأي شيء، ولا يمثلون أي رقم بالمعادلة، أو ليس لهم أصلًا وجود على خريطة التاريخ أو الحضور السياسي للانتقام منه فيتلذّذون بشتمه واتهامه.
فهو وإن مات مازال سحره وكاريزميته تخيفهم، ومازال يعطي ويوزّع شهادات الشهرة وهو في قبره.
ياسر عرفات الذي صنع تاريخه بيديه، كانت همته الطاغية ونشاطه المتّقد وحراكيته الشخصية التي لا يباريها أحد تمثل معلمًا بارزًا من معالم السحر فيه، فدومًا ما تجده على يسارك أوعلى اليمين ومن خلفك وفوق رأسك.
كان ياسر عرفات صاحب مبدأ واضح، حيث فلسطين أولًا.
وصاحب قضية حق أصيل في هذه الأرض المباركة وتحريرها.
وصاحب أخلاق وقيم ثورية وحضارية كلها استمدت من تاريخ هذا الشعب العربي الإسلامي-المسيحي المشرقي وقضيته العادلة فتجلت في سلوكياته ورفعته عاليًا.
إنك لا تستطيع أن تخرج من عباءة شخصيته الطاغية فأنت تراه يكلمك ويتقدمك بآلاف الأميال وأنت ثابت وهو متحرك.
كما تراه ملك الصورة المتوج، ما قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والذي يكاد لحراكيته الطاغية وصورته على الأرض تشكل تاريخًا بحد ذاته، يسجّل فن الحضور بالصوت والصورة، الذي لا يمكن تجاوزه أو حتى مجاراته.
ياسر عرفات المؤمن العميق بالله سبحانه وتعالى ورسالته، أدرك معجزته ومكمن قوته بالاقتران مع فلسطين، وبالايمان الساحر بالتحرير وبالجماهير هو ياسر عرفات الذي اخترع وابتدع مصطلحاته اللفظية بفنٍ لم يعلمه إياه أحد.
اتقن الظهور الجماهيري كما أتقن فن نسج العلاقات المثيرة للجدل، وأتقن فن إدارة التناقضات الى الدرجة السحرية التي أمكنه فيها في كل مرحلة وبعد كل أزمة أن يحوّل الخصم الى صديق.
من مميزات شخصيته الساحرة أيضًا، ولعله من الرئيس بن بيلا قد استفاد، ومن الحاج أمين الحسيني، ومن "ماوتسي تونغ"، ولعله كان في بعض المحطات الجماهيرية يسير على نهج الساحر جمال عبد الناصر الذي هو أيضا حتى اليوم مازال له من المحبين الكثير، ومن الأعداء الشامتين الذين لا يعرفون الانصاف أبدا، بل يتقنون الافتراءات والأكاذيب والتشفي فقط، الكثير.
ياسر عرفات أبدع في المساحات اللفظية القصيرة المباشرة المحددة ولكنها المؤثرة، وسبقها بالفعل والعطاء فكان ساحرًا، ملهمًا، كاريزميًا، بل إن الفعل عنده هو ما يتم الحديث عنه من الآخرين فهو صانعه، يجمع مكوناته ويطبخه ويقدمه.
حين يعرض ياسر عرفات ما يريده فهو بلكنته العربية المصرية المحببّة كان يضع الرموز الى جوار الحكايات عاقدًا المقارنات والتشبيهات. وفي كل ذلك جاذبية بمصطلحاته وجمله ثلاثية الكلمات القصيرة التي لطالما وضعها في قالب شعارات عاشت معنا ومازالت.
ياسر عرفات المؤثر والجذاب والمحفّز كان يعرف كيف يختار أوقاته، وأتقن معالجتها ليلا ونهارًا فهو الذي جعل كل رؤساء العرب يقفون على رجل واحدة حين يقصّرون بحق فلسطين.
السحر والجاذبية في ياسر عرفات كانت في طريقة تعامله السّلِسة مع الناس حيث التودد والبساطة والانفتاح والرحابة واللمسة الحانية والمباشرة. وحيث الحكايا المؤثرة والآيات القرآنية الكريمة، واستلهام التاريخ مِداده الذي ينطق به لسانه.
هو مع الجماهير لعب كل الأدوار من دور الأخ كتفًا الى كتف، ودور الأب الحاني، ودور القائد الشجاع وبمنطق الذي يتقدم الركب، وبمنطق كبير القوم خادمهم.
ياسر عرفات سحر الناس (الذين أحبوه، والذين كرهوه أيضًا، لعجزهم عن مجاراته) لأنه منهم وفتح بابه لكل شخص فيهم، وحيث تجد لكل شخص قصة معه حتى يظن كل شخص أنه جزء من تاريخه.
لقد أبدع الدخول بالصورة الى كل بيت، وبالفعل والمعاملة الى قلب كل انسان.
ياسر عرفات الجماهيري هو الحوت الذي لايعيش الا في بحر الناس، فرفعه البحر سيدًا عليه.
ياسر عرفات بقدراته العملية واللفظية كان دومًا يتقدم أصدقاءه واعداءه بخطوة أو أكثر فغضبوا منه، لأنه كشف أقفية عديد القيادات الملتوية الأعناق أمام شعوبهم، فخافوه ومالئوه وكرهوه، فكانوا يمدحونه نهارًا، وفي مدحه اقتراب من فلسطين، ويتم شتمه ليلًا وهو شتم لفلسطين في غرفهم المغلقة حين تسكت شهرزاد عن الكلام.
ياسر عرفات في ميزان الصورة ملك. وفي ميزان السحر جعل من التحدي والشجاعة والإقدام في ذاته، وفي طريقة تحفيزه للآخرين (في نضاليّته ورساليّته والمثابرة) أحد مكامن سحره الذي جعل العالم يحبه رغم المتربصين الكُثُر.
ياسر عرفات المقترن بفلسطين الميزان، والمقترن بالعمل والمقترن بالجماهير هو صاحب الجاذبية الطاغية والكاريزما تلك التي تراها حين تلتقيه تشعّ من عينيه، وفي نبرة صوته وكهربائه، وفي قدرته على جعل التكرار من عباراته القصيرة شهادة له. لقد رفع ياسر عرفات قيمة الكلمة عاليًا بأن سبقها بالعمل فلم يكن يرتاح للتنظير وكان يحب العاملين.
كان صوته يرتجف حين يتحدث عن الأسرى والشهداء وعوائلهم، ويكاد يبكي. وكان يصرخ حين الحديث عن الثورة والنضال وفي موضع الصمود والتحريض، ويتقطع صوته ليبرز الكلمات ويعيدها حين يبتغي تثبيت الفكرة، ولم يكن ليديه وإيماءاته وحركاته وصفحة وجهه وجبينه المتغضن الا أن تترافق مع فعل صوته في أداء لا يدانيه أداء أي محترف.
لا يمكنك حين تتحدث عن كاريزما ياسر عرفات أن تقفز عن قدرته العجيبة في حياكة واستخدام الرموز من الحطّة (الكوفية) العربية الى علامة النصر بأصبعيه السبابة والوسطى، الى البدلة الخضراء القديمة التي لم تفارقه، الى المِشيه العسكرية والقامة المعتدلة والمنتصبة، الى العديد من الشعارات التي اختطها الى اليوم على جدار القدس وفي قلوب كل الأحرار في العالم.
لمن يريد أن يعرف ياسر عرفات من أفواه غير محبيه، له أن يقرأ ذلك في سموم أقلام الحاقدين أنفسهم الذين كانوا مهمّشين عندما كان هو العملاق بشخصيته وتمثيله لفلسطين، وبحبه للناس وبضربه المثل والنموذج في سلاسة الخطوات وسرعة الخطوات ومجيد الخطوات.
إن القراءة في تاريخ ياسر عرفات بأقلام أو أشرطة (مقاطع مرئية) من كرهوه وحقدوا عليه حجّة عليهم، فلم يكن غالبهم في حياته شيئا، بل كانوا مثل الذباب على الطعام، أو كانوا صمّ بكمٌ عمي القلوب، ولما تجاوزهم بخطوات واسعة واستشهد ظنّوا بالكذب عليه تشويهًا له! والحقيقة هي فضحٌ لهم هم. فأين كنتم، ومن أنتم أصلا؟ لقد كانوا لاشيء. الا أن الحقيقة الناصعة أنهم لم يستطيعوا تجاوز حتى ظله أبدًا وإن بعد عشرين عامًا من رحيله شهيدًا.
ياسر عرفات أحاط كل من عايشه بغلافِ سحر شخصيته الأخّاذ، فكانوا من تحت الغلاف أوالعباءة يتحاورون ويتناقشون ويقولون ويصعدون ويقزون، وكان لهم أن يفعلوا ما يشاؤون حتى لو عاكسوه، فلم يكن سلطانًا بسيف بتار وصولجان مذهّب، بل كان اجتياحًا لارادّ له، فإما أن تصادقه وأما أن تُكتسح لأن فلسطين هي موجه العاتي.
لمن يبغي النظر في تأثير ياسر عرفات وصورته الآسرة، فله أن يجده متربعًا في مئات الآلاف من الصفحات والصور والشرائط التي كُتبت بجميع لغات العالم الحر، والتي أعطت للرجل قيمته ورمزيته العظيمة الحقيقية حين جاهد بكل ما يملك ليجعل فلسطين فوق رؤوس الجميع شاءوا أم أبوا، وقد نجح فخلده التاريخ.